يهتم هذا المقال بالأساس في كيفية انقلاب هذه المعادلة من المحبة المفرطة وحتى التقديس إلى الكراهية والسعي وراء الانتقام، وتسود هذه العملية بالأساس بين الشخصية الحدية والنرجسي، ففي الواقع، النرجسي يكون ضحية والديه ولهذا يقوم بتحويل شريكه إلى ضحية بطريقة غير واعية حتى يشعر بالأمان، فالنرجسي مثل أبناء عمه من الشخصيات السيكوباتية التي تفتقر إلى التعاطف، يحوِّل الناس إلى ضحايا بصرف النظر عن الأفعال التي يقومون بها لأجله.
عندما يُحوِّل النرجسي الشريك إلى صورته، فهو يعتقد أنَّه يقدِّم له خدمة جلية بجعله يرتقي إلى درجته المرموقة، ولكن ما يدفعه إلى الغضب النرجسي هو إنكار الضحية لفضله بعد أن اصطفاها من بين الجميع، فهي تكون غبية لنكرانها العطاء الإلهي عندما تنكر هذا الفضل، ومن ذلك تدخل المحبة القاسية إلى مرحلة الحرب.
طفولة وصفات النرجسي والدخول في العلاقات المقربة:
للوصول إلى تفسير منطقي لهذه الظاهرة، من الواجب العودة إلى طفولة النرجسي والأسباب التي جعلته يكتسب سلوكاته المَرَضية، ووفق رندي كريجر المتخصص في علم النفس، فمن طرائق تكوين النرجسية عند الطفل هي تربيته على الدلال المفرط والمدح، وجعله يشعر بأنَّه أعلى وأفضل من بقية الناس حوله، وهذا ما يجعله متطلباً أخَّاذاً.
أما البروفيسور سام فاكنين والذي صرَّح بأنَّه حامل لاضطراب الشخصية النرجسية، فيؤكد بأنَّ النرجسية نابعة بالأساس من الأم المهملة التي لم تلقِ له بالاً عند ولادته وطفولته، وهذا ما يجعله يعلق في سن الحادية عشر.
يؤكد فاكنين بأنَّ النرجسي يكون متشدداً دينياً، فيكون في هذا الدين إله واحد وعابد واحد، وهو الدين الوحيد في العالم الذي يكون فيه الإله هو العابد والمعبود.
الدين النرجسي يكون ديناً تبشيرياً مثل المسيحية وبنفس الطريقة، ويحاول النرجسي تحويل الذين حوله إلى هذا الدين حتى يجمع مزيداً من الأتباع الذين يُسبِّحون بحمده ويقدسون باسمه، ولكي يعيش الفرد مع النرجسي، فمن الواجب أن يكون النرجسي قائد الجماعة الدينية، وإن قام هذا الفرد بالعصيان وبالهرطقة، يُطرَد من العناية الإلهية.
عندما يعيش الفرد مع النرجسي، من الضروري أن يبدي التقديس لهذا الدين والخضوع له وعدم التعدي على الحرمة الإلهية؛ عن طريق تجنُّب النقد وإبراز عيوب الآلهة، وإلا سيتعرض لحملة صليبية تصيبه في مقتل، ومن الضروري كذلك عدم تحدي أسماء وصفات الإله، فالإله عليم بكل شيء وكامل مكتمل، ويشدد فاكنين على أهمية معاملة النرجسي على أنَّه من المتعصبين الدينيين؛ لأنَّه بالفعل متعصب في عبادة نفسه.
يشخص فاكنين نفسه بأنَّه لا فرق بين ذاته المصنوعة من الكاربون والذكاء الاصطناعي، ويضيف أنَّ النرجسي لا يشعر بما يشعر به بقية الناس، فهو يقاسي المشاعر السلبية مثل الحزن والألم النفسي، إلا أنَّ شعوره بالمشاعر الإيجابية مثل السعادة تكون منحدرة أو منعدمة، كما أنَّه لا يلقي اهتماماً كبيراً لما يُقال عنه، فهو بمنزلة الشبح، الفراغ، وهو اللاشيء.
حسب المتخصصين اليابانيين في علم الروبوتات، النرجسي هو مستقبل البشرية؛ لأنَّه يمثل الانعكاس البشري للحاسوب، ولكي يملأ هذا الفراغ العاطفي، يبني النرجسي علاقاته المقربة لكي يشعر بالمحبة الأمومية التي لم يتحصل عليها في الطفولة، فأمه سبَّبت له معاناة شنيعة وألماً لا يُطاق لدرجة أنَّه قام بالتضحية بذاته الحقيقية التي يكرهها واختلق ذاتاً أخرى وهمية مستوحاة من شخصيات أخرى تتلخص في نفسه النرجسية، فأمه هي ألم حياته وعذاب روحه؛ ولهذا يقوم بتحويل الشريك في صورتها ويحوِّل نفسه في صورة أشخاص آخرين.
وفق المتخصص في المرض النرجسي إبراهيم زيدان، النرجسي لا يتعلق إلا بالأشخاص المتعاطفة والمضحية والتي تكون معجبة به؛ حتى تقوم بمدحه والتصفيق له والانبهار به حتى يتلقى المد النرجسي الذي يحتاج إليه، فهو يفضِّل شخصيات معينة مثل الإمباث والسوبر إمباث والهيوكا وخاصة الشخصية الحدية؛ ولهذا يقوم النرجسي دائماً بمديح وتمجيد الشريك في بداية العلاقة، فالنرجسي في حالة إدمان على المد النرجسي الذي يكون بمنزلة المخدرات بالنسبة إليه.
شاهد بالفديو: 8 صفات يتفرَّد بها الشخص النرجسي
بداية العلاقة مع الشريك:
عندما تبدأ العلاقة، تتلخص سلوكات النرجسي بالأساس في التهكم والسخرية عن طريق المزاح والتلاعب، والاستغلال المادي، والسيطرة، والتثليث، والتهديد بالرحيل؛ وتكون هذه المرحلة الأولى من التعسف النرجسي، فالشيطان النرجسي الحامل لوجه الطاووس كما يقول الدكتور إبراهيم زيدان يتوهم دائماً أنَّ الطرف المقابل في حالة منافسة معه، ويحاول أن يقنع نفسه أنَّه أكثر عظمة من غيره وبأنَّه في أعلى الدرجات الأخلاقية بالرغم من كل تقصيراته واعتماديته على غيره، فهو يوهم نفسه بأنَّ لا أحد يفوقه خلقاً.
الجانب الأخلاقي عنده أمرٌ مقدس لا يُمس، ولأنَّ النرجسي يعيش انعدام الأمن الأنطولوجي؛ فهو يتوقع من شريكه أن يكون مثالياً وكاملاً، وأن يكون بمنزلة الأم الحنون، فيرغب منها أن تمنحه المحبة الأمومية وأن تحل محل أمه التي أهملته صغيراً؛ ولهذا تبدأ المشكلات بين النرجسي والشريك عندما يقوم هذا الأخير بالمطالبة بمزيد من الالتزامات والاحترام.
من هنا، ينحرف الشريك عن عطائه غير المحدود؛ أي دوره الأمومي، فتجده يطالب بأن يكون شريكاً متساوياً في الحقوق والواجبات، وكل هذه المطالب تعيد فتح الجروح القديمة للنرجسي التي عاشها مع أمه، وبهذا تبدأ المرحلة الثانية من التعسف النرجسي عن طريق البرود العاطفي، والصمت العقابي، والمنع من الجنس، والتهميش، والتجاهل، وإلقاء اللوم على الآخر، وتشويش المشهد، والتعنيف الجسدي، وتجده ينعت الشريك بالأوصاف المعيبة التي يحملها هو وكأنَّه يقول لها: احملي عني أمراضي النفسية، فأنا لا أريدها.
كل هذه الاضطرابات التي حدثت له بسبب والدته تجعله يكره أمه بغير وعي؛ ولهذا نجد أنَّ أغلب النرجسيين من الرجال يكونون كارهين للمرأة ويعدُّونها أقل شأناً من الرجل، ومن الواجب عند القراءة أن نقلب الضمائر، فالمرأة النرجسية بدورها تكون كارهة للرجال، وهذا ما نلاحظه اليوم في الجمعيات النسوية الراديكالية للنرجسيات اللاتي يقلِّلن من شأن الرجل ويقمن بالحط من دوره.
نهاية العلاقة مع الشريك:
يؤكد سام فاكنين أنَّ النرجسي عند الزواج يقوم بإذلال وإهانة وإهمال زوجته؛ عن طريق منعها من ممارسة الجنس معه عندما تخرج عن سيطرته، كما أنَّ لوم الشريكة بعدم نجاح العلاقة هو من الأسس النرجسية في علاقاته المقربة، فجهاز المناعة النرجسي الذي بداخله لن يسمح للآخر على الإطلاق بأن يجعله يبدو الظالم في القصة؛ ولهذا يقوم بإعادة كتابة التاريخ للعلاقة.
يشير سام فاكنين إلى أنَّ النرجسي يشتكي من اضطراب الهوية الانفصالي؛ لأنَّه ينسى ثمانين بالمئة من ذكرياته؛ ولهذا يصطنع قصصاً خيالية لكي يملأ الفراغ الذاكري، وهذا يُطلق عليه بعملية التخريف، وهذه الحالة تدفعه لأن يستعين دائماً بإعادة كتابة التاريخ وتشويش المشهد.
هذا الأسلوب يسمح له بأن يتسامى عن العادة البشرية المنحدرة، ويتحول إلى ما يطلق عليه نيتشه بالسوبرمان، إذ من الواجب عليه أن يعزز عظمته عن طريق التهرب من الشريك الذي يراه بأنَّه يقلِّل من شأنه ومن قيمته المتعالية، فالنرجسي لا يرى نفسه إنساناً، بل هو السلالة المتطورة للإنسان، والشريك يحاول أن يؤخر تطوره إلى الحالة البشرية، فلن يسمح لنفسه أبداً بأن ينحط بسبب الوضاعة البشرية لشريكه.
النرجسي يحتاج إلى حفظ عظمته، ولهذا فهو لا يرتكب الأخطاء على الإطلاق لأنَّه شخصٌ كامل خال من كل العيوب، فهو يضع نفسه في مكانة الله تعالى، ولهذا من المستحيل أن يعترف بأنَّه أخطأ في قراءة الشريك عند بداية العلاقة، فيُقنع نفسه بأنَّ الشريك هو الذي تغير وخرج عن السكة المعهودة، فالشخص الذي مجَّدَه سابقاً ليس نفس الشخص الذي يقوم بتحقيره، وهذا ما يُطلق عليه بالدفاع البلاستيكي للنفس.
لأنَّ النرجسي يحتاج إلى المد النرجسي الذي يكون عن طريق الانبهار، لأنَّ والدته لم تصفق له في أول طفولته؛ فهو يحتاج إلى أن يكون شخصية شعبية واجتماعية محبوبة للغاية، ومن الضروري له أن يتمتع بالكاريزما وفن الكلام أو أن يكون متميزاً في ميدان معين، فكل هذه الأساليب تضمن له البقاء النرجسي.
هذه الشخصية المقنَّعة تضمن له المديح والإعجاب، وهذا ما يستخدمه بوصفه شهادة واهية للدفاع عن نفسه عندما يرتكب كل أنواع التلاعبات والخداع النفسي والمادي على الضحية، وكأنَّ مديح الناس له يجعله إنساناً كاملاً لا يرتكب الأخطاء، وفي الحقيقة، النرجسي يقوم بكل هذه التقنيات النرجسية لكي يدفع الشريك إلى التخلي عنه بإلقاء كل اللوم عليه، وبذلك يقوم بإعادة نفس السيناريو الذي عاشه مع أمه بطريقة غير واعية.
وفق الأستاذة فاطمة عرفة، عندما يحدث الطلاق أو الانفصال، فالنرجسي لا يندم على فقدان الشخص ذاته، بل يفتقد كل الخدمات التي كان يقدمها له الشريك مثل الانبهار والخدمات بدءاً من المال إلى الجنس وغيرها، فالشريك عنده مجرد وسيلة أو أداة.
لقد أبدع فاكنين في تصوير هذا المشهد فأكد أنَّ النرجسي يعبر عن محبته لزوجته مثلما يعبر عن محبته لأكل الأرز، فالعلاقة النرجسية تقوم على هذه الدائرة التعسفية: التمجيد، ثم التحقير، ثم النبذ، ثم التدمير، ثم الهوفيرينغ أي محاولة استرجاع الضحية، وإن لم تنجح هذه العملية، تنتهي العلاقة.
شاهد بالفديو: 8 صفات للزوج النرجسي
ما بعد النهاية والانتقام:
تكون غاية العلاقة مع الشريك هي تحويله إلى كبش فداء يقوم بتضحيته في مذبح الإله النرجسي، وهذه استعارة لتضحياته وخدماته المتتالية، فعلى الشريك أن يموت حتى يشبع رغبات الذات الإلهية، ففي العلاقة مع النرجسي، أحد الطرفين من الواجب أن يموت من الجانب النفسي أو حتى الجسدي، فضحايا النرجسيين خاصة من الشخصيات الحدية يصفون خروجهم من العلاقة بالموت الداخلي.
لهذا، أكثر الشخصيات التي تصل إلى درجة الانتقام هي الشخصية الحدية التي تتميز، وفق الدكتور إبراهيم زيدان، بالطيبة والتعاطف والتضحية إلا أنَّها لا تتحمل الانتقاد وتتحول إلى شخصية غير قادرة على السيطرة على غضبها الحدي، ومن المحتمل أن تهيج عند نهاية العلاقة، فتشعر بأنَّها تُرِكَت بعد كل التضحيات التي قامت بها لأجل الشخص النرجسي المستغل، وعندها تبدأ رحلتها في الانتقام، فهي مستعدة لتحطيم النرجسي وتحطيم نفسها في نفس الوقت لأجل الانتقام.
يضيف إبراهيم زيدان أنَّ الحدي من الدرجة الثالثة يهزم النرجسي ويهزم نفسه في نفس الآن، وقام بتقديم مثال علاقة شيرين عبد الوهاب الحدية مع حسام حبيب النرجسي، والتي انتهت بفضح شيرين عبد الوهاب لنفسها وللنرجسي، وبالفعل، عند تلقي النقد، تنفجر الشخصية الحدية في وجه النرجسي وتكشر عن أنيابها.
يجزم البروفسور سام فاكنين بأنَّ الشخصية الحدية تتحول عند غضبها الحدي إلى سيكوباثي ثانوي، وتكتسب خصائص أخرى مثل العنف والقسوة والتهور والتحدي والاندفاع، وتتخذ قراراتها وفق هذه المجموعة من المواصفات السيكوباثية، فتقوم باستهلاك المواد المخدرة وقيادة السيارة بطريقة متهورة والمقامرة بكل أموالها وحتى الانتقام العنيف من الشريك، ويمكن أن يصل هذا إلى القتل ثم الانتحار.
تبين الدكتورة خلود الدمشقي أنَّ الشخص المقابل عندما يهجر الشخصية الحدية، تدخل في نوبة غضب عارمة تتراوح بين الساعات والأيام، فتقوم فيها بهجوم وقصف كلامي قاس جداً للإذلال والإهانة، وتقوم فيها بكثير من أنواع العقاب والانتقام، ومنها استخدام الكلام الجارح بكل شدة.
تدخل في حملة تشويه السمعة وتطالب باسترداد أموالها بأي طريقة كانت وتقوم بالتهجم الجسدي وتكسير ممتلكات غيرها؛ وذلك لكي تقتص من جرحها الدامي، ومن الطرائق الأخرى التي ينتهجها الحدي هي أذية النفس كجرح الجسد وضرب وحرق الذات والتهديد بالانتحار.
لعلَّ أفضل تصوير سينماتوغرافي للانتقام الدرامي للحدي هو فلم فيتال أتراكشون المبني على أحداث واقعية، فلم تتحمل ألاكس فراق محبوبها المتزوج دان وقامت بقطع شرايين يديها مهددة إياه بالانتحار إن قام بتركها، وتوصلت في مساومته إلى أن يزورها دائماً، ووصل بها الأمر إلى تهديده بإخبار زوجته بعلاقتهما المحرمة، لكنَّ دان لم يذعن لها، وانتهى الفيلم بنهاية دراماتيكية لا يمكن وصفها.
في الختام:
إنَّ العلاقة مع النرجسي تتلخص في آية واحدة من القرآن في سورة مريم: (كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً).
بقلم: أحمد قسامة
أضف تعليقاً